Menu

 أبراهيم زعاقيق: حكاية شهيد في دفاتر الفداء

ثائر أبو عياش

001.jpg

رصاصة واحدة في الرأس كانت كافية لقلب مشهد الفرح إلى مشهد الحزن، هكذا هي الحكاية بدأت، إذ الرصاصة لم تعتذر يبدو للجسد قبل الارتطام في الرأس، على زاوية المنزل العتيق في بلدة بيت أمر¹ كان يقف الشهيد أبراهيم زعاقيق² يُتابع عن كثب جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، وفجأة بدون سابق إنذار أطلق جندي رصاصة واحدة من داخل الالية العسكرية لتستقر في رأس أبراهيم، وكالعادة صرخ الشبان المتواجدون في المكان إصابة.. إصابة، ولينقل أبراهيم بعد ذلك إلى العيادة الصحية في البلدة من أجل محاولة إنقاذ حياته، وأستمر هذا الأمر وقت طويل بسبب تأخر مركبة الإسعاف من الوصول، حيثُ بعد السابع من أكتوبر أغلق الاحتلال الطرق المؤدية إلى بلدة بيت أمر كما حال معظم القرى والبلدات الفلسطينية.

إذن، بعد وقت طويل تمكنت الإسعاف من الوصول إلى المستشفى الأهلي في مدينة الخليل عبر الطرق "الترابية"، ولكن دقائق قليلة كان أبراهيم قد استشهد، هنا يُمكن وصف المشهد كما رأيته، حيثُ بدأ الصراخ يتناثر من حناجر أهالي البلدة، فضلًا عن الدموع التي بدأت تُخاطب العيون، كان مشهدًا حزينًا حتى الثمالة، ومؤلمًا حتى العظمة، أما الأكثر قهرًا هو قول أحد الشبان بجانبي: " أبراهيم قد تحرر من السجن منذ عشرة أيام، لم تفرح به العائلة بعد"، كانت كلمات هذا الشاب كافية ليخترق سهم الألم جسد الفرح، ويُمزق قلب الابتسامة، ويقتلها دون رحمة، هكذا رحل أبراهيم وهو يحمل حقائب الفرح إلى الأبد.

هنا، يبقى السؤال هل انتهت الحكاية إلى هذا الحد؟، ليس بعد تلك هي الإجابة، حيثُ الشهيد سيبقى قصة إلى ما لا نهاية، إذ الرصاصة تفتح أبواب جديدة لعائلة الشهيد لن تُغلق أبدًا، ونعود إلى أبراهيم زعاقيق، هذا الشهيد هو الذكر الوحيد في عائلته، وقد صرخت أمه مرتين عليه، كانت المرة الأولى عند ولادته، والمرة الثانية عندما استشهد، بل حملته أمه مرتين، كانت المرة الأولى عندما انجبته، والمرة الثانية عندما استشهد، إن هذه الأم الثكلى كانت رصاصة واحدة قد اخترقت رأس طفلها كافية ليُصبح الحزن رفيق دربها، هذه الأم التي تصحو باكيه، وتغفو باكيه، هذه الأم التي تستحق أبراهيم لأنه أعظم إنجازاتها في حياتها.

لا بأس، تستمر الحكاية في نسج خيوطها، وهنا، نتحدث عن الأب، القصد والد الشهيد إبراهيم زعاقيق، إنّ هذا الأب هو "اصم وابكم"، إذ كانت عيونه هي التي تتحدث، وتفاصيل الوجه الحزين هي التي تصرخ، أما دماء طفله إبراهيم التي كانت على قميصه هي التي ترسم خيوط الألم، أما في مشهد الوداع رفع الشبان والد الشهيد أبراهيم على الاكتاف، وبدأ يرفع يديه، وهو يُحرك شفتاه، كان مشهدًا يُدمي القلب، حيثُ الجميع كان يُدرك أن هذا الأب الآن أكثر من أي وقت مضى يصرخ، ولكن ماذا كان يُريد أن يقول، لا أحد يعلم !، هو فقط يلوح بيديه، ويُحرك شفتيه، هي صرخته الأبدية، صرخته اولًا، صرخته أبدًا، لربما كان يُريد أن يقول شيء ما، كأن يقول مثلًا: " أنا حزين، هذا طفلي، أين أنتم ذاهبون به، لنعود به إلى البيت، حيثُ غطاء السرير في انتظاره"، لربما هكذا كان يقصد!.

من جديد، لنعد إلى الشهيد أبراهيم، لم يكتفي هذا الشهيد بالشهادة فقط، وكما قلنا سابقًا كان أبراهيم في السجن، وقبل ذلك كان مصابًا في قدمه برصاصة من جيش الاحتلال الإسرائيلي، وبل كان أبراهيم معتقلًا لدى السلطة الفلسطينية بسبب موقفه السياسي، كأن هذه اللوحة من الاحداث هي لوحة الخلود التي كان يبحث عنها إبراهيم، إذ نجح ببراعة، وأكثر بشجاعة في رسم صورته الأخيرة في ذهن من كان يعرفه، وأكثر في ذهن من سمع عنه، هكذا تفوق أبراهيم في أسلوب الرحيل، حيثُ الموت كان بالنسبة لهُ حتميًا، أما الخيار قد كان في طريقة الرحيل، هكذا هم الشجعان يبرعون حتى في ترك البصمة عند لحظة الوداع.

لن تُبرح أبدًا من الذاكرة، ونحنُ بدورنا لن نرتدي طربوشهم، بالفعل يُحاصرنا دائمًا الشهيد، يعود فينا إلى القضية، وإلى طرف خيطها الأول، يسألنها عندما نعيش يومًا جديدًا أين كنتم؟، يستفز بدمائه وجودنا العبثي الذي نبحث فيه عن حياة يحاصرها الموت من كل زاوية، ومع كل رصاصة، واقتحام، وجنون الاحتلال العصري الذي يحمل نعوشنا معه كأنه يبحث عن حياته بموتنا، ونحن سعداء نقفز في أزقة الأحياء نبحث عن حجارة من التاريخ نطرد فيها من جاء يسرق نومنا وأحلامنا، وسريرنا، ووسادتنا، ولكن ذلك لن يحدث بدون الشهداء الذين يقدمون الأمل دومًا لنا، ويعيدون البوصلة نحو القضية الأولى.

أسدلت الشمس ستائرها الجميلة، وأطلقت الجنون لضوء القمر، في ذاك الوقت كان الشهيد أبراهيم زعاقيق يُلامس بيوت بلدة بيت أمر، وينظر إلى السماء وهو يُعلن الاحتجاج بابتسامته على النجوم، ويقول بداخله:" أنا نجمة البلدة"، ويقترب من لحظة الوداع وهو يقول ما قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدته ملحمة الظل العالي، إذ يقول درويش: " كَم كنت وحدك يا أبن أمي، يا ابن أَكثر من أَبٍ، كَم كنت وحدك"، وإلى هنا لم تنتهي الحكاية بعد، إذ الاحتلال ما زال موجودًا، والنص لن يتوقف مع حكاية أخرى.

_____

 ¹. بلدة بيت أمر: بلدة فلسطينية تقع في جنوب الضفة الغربية إلى الشمال من مدينة الخليل وتبعد عن مركز المدينة 11.5 كم، وهي تابعة لمحافظة الخليل.

². الشهيد أبراهيم زعاقيق: يبلغ من العمر (20 عامًا)، استشهد برصاص الاحتلال الحي في الرأس ببلدة بيت أمر شمال الخليل، يُذكر أن الشهيد عوض أسير مُحرر أُفرج عنه قبل أسبوعين فقط من سجون الاحتلال، وكان الشهيد اصيب قبل عامين برصاص الاحتلال في قدميه، ومعتقل سياسيًا سابقًا لدى السلطة الفلسطينية.